كائنات من غبار هي رواية بقدر ما تبرز مشاعر الإنسان المتقلبة في مواجهة المواقف الحياتية الأشد ألما وعنفا وبؤسا هي رواية فرص الحب الضائع والعلاقات الغرامية العابرة والجامحة التي تتجاوز إطار الواقعي لتمتد ملابساتها لزمن افتراضي محض . فقدر بطل الرواية هو الفشل الكبير إزاء كل محاولة صادقة وحقيقية للحب لا يجني من تبعاتها سوى الألم والغدر ليتملكه كره عميق وزهرة حبه تداس تحت أحدية ثقيلة ما جعل ردود أفعاله العكسية عنيفة .
كيف سيكون شعورك والفشل قرين لك كظلك لا يفارقك أبدا ، شعور سيترجم إلى بحث حثيث نحو متع عابرة وملاذ في أجساد أنهكتها العزلة واليأس والوحدة والحرمان والضياع ، نحو أفاق أبعد مقتا كزنا المحارم استجابة لنداء الجسد ؟ . ما حول النظرة إلى الزنى حقا مشروعا للمغتصب(كبالا) يستعيده كرها وبكل الوسائل مادام يلبي نداء واحدا لا غيره .فالإناث لا ينفلتن من قبض قناص محترف .
كما استأثرت الرواية بنقل فضاءات محددة تمت الإشارة إليها ك " أزمور للا عائشة البحرية / وسط المدينة / الحي الشعبي / الشارع العام .سوق الحمراء..." وهي فضاءات لمسنا انها ارتبطت بالحديث عن الجسد الأنثوي أو إثارته من خلال تجلياته " دعارة / تحرش / مغازلة / مقت وازدراء " إلى جانب فضاء آخر لكن افتراضي .
في حين تمت الإشارة إلى البادية من خلال العودة إلى الطفولة أو الحديث عن الجدة والأخوال والأعمام والجد ومشاكل القرية التي كانت أغلبها تثار من جانب جنسي محض .
فالأمكنة لم تسلم من انتقاد بطل الرواية ورفضه لواقعها كما هو من "دعارة واستغلال ، إلى جانب فضاءات أخرى كالحافلات التي تم ذكرها بالاسم وخط الاتجاه " وهذا التوظيف في الرواية الجديدة حسب الدكتور عزيز الماضي يجعلها "تسعى إلى التعبير عن العلاقات الاجتماعية القائمة والاسهام في خلق علاقات جديدة ، فهي تعبر عن وعي جمالي يتخطى حدود الوعي السائد ويتجاوزه إلى آفاق جديدة ..لهذا فإن مهمة الرواية الحديثة لا تتمثل في الوعي والارشاد بل في تجسيد رؤية فنية والرؤية كشف جديد لعلاقات خفية ومن خلال هذا الكشف الجديد تتولد المتعة والتشويق والجاذبية (2)
فقد لمسنا تركيزا على بناء الأحداث الكبرى من داخل ورشة البناء ونقل الواقع العمالي البائس والموجع وصراعهم اليومي من أجل البقاء مع الإشارة إلى فداحة الظروف المزرية التي يعملون فيها ومقالبهم وأمزجتهم المتقلبة ونظرتهم إلى المرأة التي ستظل هي الأخرى مهيمنة على خطابهم اليومي والتداولي إما ك" حبيبة / أم / زوجة العم / جارة / خادمة / جارة / عاهرة / ربة بيت ..." ما أبرز حكايات جانبية أخرى ورصد لواقع يومي لأمال عريضة تعلق على مشجب الانتظار .
لقد انفتحت الرواية على أكثر من مسار وحكاية لتستعرض واقع الشعوذة واللواط والمرارة والاستغلال والحق وزنا المحارم والدعارة والطفولة والكتابة سواء من خلال إدراجهما ضمن فلاشات صغيرة لكنها دالة على إجهاض أحلام جيل بأكمله .
ولعل اللجوء إلى تكسير خطية السرد أكثر من مرة ونفح جسد الرواية بتناص قصصي قصير يجعل من هيمنة النوع السردي على الكاتب كبيرا إلى حدود عدم الانفلات من خلال تضمين القصص الخاصة ب "المعاشي وأم عماد ، ( الجارة) ضمن فتح علب السرد الصغيرة لتهيمن على مجريات الحدث الرئيسي وإن كانت تصب في سرير حكايته بالخيانة التي تتخذ مسارات واحتمالات متعددة والقصة اللعوب المتعددة الأوجه والنهايات ، لتظل الكتابة لعبة الراوي الأثيرة في مواجهة قارئه الافتراضي والخيط الرئيسي الذي يشد طرفيه الكاتب من الخلف وهو يتحكم في كل الأحداث فهل ظل هشام بن الشاوي يناور قراءه طيلة فصول الرواية أم أن تورطه كان واضحا حد التداخل بينه وبين بطلها من خلال اللجوء إلى تجريب أعلن عنه ضمنيا وأخبر قارئه به من خلال خطاب مباشر وقد " أحس بوجع يخترق خلايا رأسه ـ توقف عن الكتابة .فكر في حبكة مقنعة تجعل القارئ يقتنع بسقوطها .ص 97 " فكر ـ لوهلة ـ أن القراء المفترضين سيستغربون كيف عرف بتلك التفاصيل " ص96 " أحس بالامتنان والحبور عند هذا الحد من الكتابة " ص 100 " خامره إحساس بهيج بالتفاؤل " إنه يختلف عن كتاباتي السابقة ، وحتما سيغير الكثير من المفاهيم " ص 102
لقد أثارت الرواية قضايا عديدة سنحاول مقاربتها من خلال المحاور التالية :
التجارب العاطفية الفاشلة / الموقف من الجنس/ الدعارة / الشعوذة / العلاقة بالمكان / الواقع العمالي / الكتابة .
1) التجارب العاطفية الفاشلة
تبدأ الرواية بالحديث عن خروج السارد من تجربة حب فاشلة سيعقبها الإعلان عنها مطاردة فتاة في الحافلة وهذه الأخيرة بقدر ما بددت سحابة حزنه وكبريائه وضعفه وهي تتمثل مكانها في قلبه سيواجه حبها من طرف أصدقائه بنوع من السخرية باعتبارها مجرد حب عابر في حياته كالأخريات ولعل علاقته ب "هند" بقدر ما أبرزت تحولا على مستوى النفسية والسلوك سيحول استبداده العاطفي ومزاجه المتقلب دون الاستمرار معها لتضحى نسيا منسيا أمر لمسناه من خلال استرجاع الراوي لمجموعة من اللحظات التي جاءت بشكل وامض في الفصل الأول من الرواية يقول " لم يكن تعارفكما حبا من أول نظرة ، وإنما وليد لقاءات قصيرة ،ثم صرت " نسيا منسيا " ص 4
لقد شكلت هند باندفاعها وحبها واستسلامها نموذجا للفتاة المتيمة وفي نفس الوقت الحذرة من الدخول في علاقة جسدية غير محمودة العواقب جاء على لسان البطل " كانت تخنقك بقبلاتها ، لا تستطيع أن تجاري شفتيها ، تضحك مبتهجة ، تمد يدا مكهربة إلى سروالها ، تهتف متضاحكة : إنه موصد بمائة قفل " ص 5
إن هذا التمنع سيدفع البطل إلى تحطيم هذه العلاقة يقول السارد ' كتبت لها بأنك مع عاهرة ، كنت مدفوعا بقوة غريبة ..كتبت لها أن العاهرة حائض ، وأنك ( ..) من الخلف ، تخيلتها مكانها .." ص 6
"فالرواية الجديدة تثير الأسئلة الفنية التي تصدم القارئ أكثر مما تجذبه، وتهز وعيه الجمالي وذوقه أكثر مما تدغدغ عواطفه وتجعله يعيش في عالم متماسك بفوضويته ، وهي تؤكد له مرارا ..أن ما يقرأه لا يمثل الواقع ، بل هو مجرد عمل متخيل ، فالرواية الجديدة بنية فنية دالة على الاحتجاج العنيف والرفض لكل ما هو متداول ومألوف وهي تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم " (3)
إن هذا التصرف كان بدافع الحب الحقيقي للمرأة الوحيدة التي أحبها بصدق وعشقها بجنون وهذا الحب الأناني كان يخشى عليه كثيرا حتى من نفسه فهي حلمه الوحيد "كزوجة" والمرأة الوحيدة التي يبادلها نفس الإحساس يقول الراوي "كتب إليها في رسالة قصيرة معتذرا ..أن أعاملك كالآخرين كرجل وامرأة فهذا جرم لا يغتفر يا حبي الأخير " ص 6 وهو ما سيفتح له باب الدخول في سلسلة من العلاقات العابرة سواء واقعيا أو افتراضيا لكنها ستلقى نفس المآل وهي تقف على حقائق مرة وإكراهات ليبقى الاستمرار مقتصرا على العلاقات الجسدية بعيدا عن الحب .لكن هذا الطرح لا يعني الانغماس المطلق بقدر ما أبرز عفة ورجولة من خلال مواقف أبرزت إنسانية الإنسان الكامنة داخل روح بطل متمرد وحائر وهو يترفع عن استغلال ضعف امرأة مكسورة الجناحين كما حدث مع شخص "نادية "الخادمة والذي يمكن اعتباره أكثر من موقف نبيل وأبرز انكسار الراوي نفسه يقول " استرخى فوق مقعده بعد أن غادرت الحافلة وخفت ضجيجهم ، غرق في شروده كسير القلب والدمع يكاد يطفر من عينيه" ص 92
كما تطرح الرواية سؤالا جوهريا حول الحب الافتراضي جاء على لسان أحد الشخوص ، كيف تحب امرأة تفصل بينك وبينها بحار وجبال وبلدان ؟ فهذا الحب بقدر ما هو حب جنوني يبرز حقيقة واحدة أن الحب لا يعترف بالمسافة والجنس واللون واللغة والانتماء ، الحب يبقى حبا في النهاية فمن خلال حوار البطل مع شخص "نانا" سنلمس كيف تشمل المرأة حيزا أساسيا في حياته هو بمكانتها الاعتبارية التي يشيد لها يقول " يا لئيمة أمزح معك تعرفين أني أحبك من دون أن أفكر فيك كامرأة ، أنت الشيء الوحيد النقي في حياتي ولست كبقية" شراميط "الكتابة " ص 21
فالبطل عبر عن مواقفه من الحب وكذا أسلوبه الخاص الذي يدخل ضمن دائرة الغيرة وقد عبر عن ذلك بصراحة " أنا رجل غيور جدا لا أصلح للحب " ص 24 وسيبرز كيف سيتحول هذا الحب إلى نوع من الحب المتطرف يقول " لا أحتمل أن يعلق على كتاباتك أحد حتى ولو كان جبريل عليه السلام ..وهذه طريقتي الوحيدة في التعبير عن حبي المتطرف " ص 24
فعلاقة الحب الافتراضية بقدر ما تسببت في حزن البطل وتعاسته كانت سببا في جنونه وفقدانه لتوازنه في بعض الأحيان وهو ما سيكون بداية للانحراف الخطير خصوصا بعد أن أخلفت قطته الشامية موعدها معه بسبب زواجها وتخليها عنه بالقوة ( أسباب أسرية) يقول الراوي " انتابه ألم لا يحتمل ، طفرت الدموع من عينيه وقلبه ...رباه لم كتب علي أن أشقى دوما ؟ أ لأني أحب ببراءة الأطفال ؟ لماذا تعاندني دائما هذه الدنيا الكلبة ؟" ص 107 عن هذا الألم يقول مارسيل بروست في روايته "البحث عن الزمن الضائع" أنها تمثل صرخة ألم وهم : فإنما الحياة تذبيل للجسم ، وليس الإنسان فيها استمرارية ولكنه انقطاع ، والذاكرة الخائنة . ما أكثر ما تشوه الأشياء حين نحاول استعراض وجوده فالإنسان هو الكائن الذي لا يستطيع أن يمرق من دائرة نفسه وقد يكون كاذبا من يحاول إثبات عكس هذا " (4)
فالرواية ربما تمنح الهيمنة للصورة الجنسية بداخلها ، لكنها لا تعدو أن تكون مجرد وسيلة لبناء أحداث أو لتأتيت أخرى تبرز الموقف من الجنس نفسه الذي يتم نقده بشكل صريح " تبا لهذا الجسد الذي يجرنا دوما إلى الخطايا " ص 9 وهو ما لا حضناه سواء على متن الحافلة أو في ضريح للا عائشة البحرية فالمقت والاستهجان نابعان من سخرية سوداء من مواقف تغلف الجنس بحمولات مغرضة ضمن سلوك زيارة الأضرحة والتبرك كما تقنع كل الإسقاطات الدونية للجسد وكرامة المرأة وانحصار دورها في حيز جنسي وجسدي ضيق كما عبر البطل عن ذلك من خلال انتقاده لتفكير الزائرات للضريح " فهن لا يفكرن إلا بما بين أفخاذهن " ص 9
2) الموقف من الجنس
لعل الطابع المهيمن على رواية كائنات من غبار لهشام بن الشاوي هو ذلك الرصد العميق والدقيق لتفاصيل بقدر ما تصيب بالذهول تبرز جوعا جنسيا رهيبا يبدأ بتحرش جنسي في فضاءات مختلفة داخل الحافلة أو في انتظارها ،من داخل ورشة البناء أو خارجها على الواجهة السيلكونية ، داخل الاصطبل أو غيره مع تحول في الفعل في بعض الفضاءات إلى ممارسة جنسية عنيفة \أحيانا \ \أو \إيحاءات جنسية تبرز من خلال عنف اللغة التداولية بمقالبها ومطباتها الضمنية المضمرة والمحيلة على الجنس في أبهى تجلياته أو في صورته الوضيعة أحيانا والمقززة .يشيرالأستاذ محمد برادة قائلا " احتلت موضوعة الجنس حيزا كبيرا في النصوص الروائية منذ البدايات وصولا إلى محمد شكري ورؤوف سعيد وخليل حاوي وخليل النفيسي ورشيد الضعيف وفؤاد التكرلي وعلوية صبح وعالية ممدوح وخالد خليفة ومحمد صلاح العزب ومحمد الفخراني وحمدي الجزار "(5) ، كما رصدت الرواية العلاقات الجنسية من داخل الورشة التي تحولت إلى مكان مثالي وغير مشبوه فهي وكر للكل المتع الجنسية وللدعارة بعيدا عن كل مراقبة من خلال تجهيز غرفة ببعض المستلزمات يحفها دفء وانعزال عن العالم الخارجي ليلا وهي محطة لتوافد العمال للسهر والسكر والتمتع جنسيا يقول الراوي " رأى " بعية " ممددا فوق السرير المهلهل إلى جانبه امرأة ثلاثينية خمرية الوجه ، مترهلة الجسد وهي تعد طعام العشاء على ضوء شمعة " ص 67
وهذه الصورة سوف تتضح أكثر من خلال خروج الباغيات في وقت مبكر من الصباح بنوع من الصمت المشوب بالحذر يقول " تستيقظ النساء الأربعة عند سماع حديثهما الخافت ،يرتدين جلابيبهن مغادرات الحجرة في صمت وهن تتثاءبن يسبقهن " المعاشي" واقفا أمام البوابة الحديدية يلتفت يمنة ويسرة ثم يشير إليهن أن تخرجن بسرعة " ص 77 وهو ينقل لحطة منفلتة من خلال حديثه عن أحد الشخوص "كبالا " يقول " بمجرد ما يرى أية بقرة من البقرات يعتقلها حتى ولو كانت أمه أو أخته . ينسى كل شيء " ص75
فممارسة الجنس بقدر ما تضحى الظاهرة المسيطرة على بعض فصول الرواية تبرز العلاقات الجنسية بوجهها المخالف للمعتاد إما مع بعض الحيوانات أو خارج نطاق الغرباء لتتحول إلى نوع من السفاح وزنا المحارم يسوق الراوي مشهدا ل "كبالا"" داخل اصطبل عمه وهو يضاجع أثان "ضبطته زوجة عمه محتضنا الأتان من الخلف وجسده يهتز ..كانت لا تزال تشد سروالها وتبانها من تحت ثوبها المرفوع ما فوق الركبتين تراجع إلى الخلف مبتعدا عن الأتان " ص 69 وهي اللحظة نفسها التي ستعري عن أحد الأسرار من خلال لجوء زوجة العم إلى مقايضة الواقعة بصمتها حيث ستعرض عليه أن " يلتصق بها من الخلف " ص 70 وسنلمس صوتا داخليا للمرأة ومعاناتها مع انفراط عقد شهوتها وعدم انطفاء لهب جوعها الجامح حين رددت في سريرتها " ليس ذنبي أن أحدهم التصق بي من الخلف في زحام الحافلة المتوجهة إلى السوق الأسبوعي " ص 70 وسيبرز هذا الجوع أكثر وهي تختار وضعية غريبة " وهي تستند بيدها على الحائط في تلك الظلمة ، دافعة بعجيزتها المترجرجة نحوه ، طوق خصرها بقوة وأنفاسه تحرق وجهها " ص 70 وربما هو نفس الحدث الذي ساقه الراوي في ص 14 عن" امرأة غادرت الحافلة للتو ، مشيرين ....إلى تلك البقعة اللزجة ..تشد جلبابها من الخلف "
وستستمر علاقة كبالا بزوجة عمه لتبرز استمرار اللعبة بنوع من التواطؤ المكشوف يقول الراوي " في ظلمة الاصطبل وهما يختلسان متعتهما المحرمة بحبور تهتف زوجة عمه : إنه ينام بمجرد أن يضع رأسه على المخدة " ص 86
فالجنس بقدر ما هو وسيلة للمتعة يضحى سببا للصراعات العائلية والقبلية في البادية بحيث يبرز الفصل الثاني أن المشاكل الجنسية والدعارة والسكر والعربدة والشبق هي أفعال دائمة الحضور في البادية كما في المدينة وقد ساقها بطل الرواية بنوع من التذمر والقلق كفعل متجذر من خلال ثرثرة الجدة "تجود عليك ( ذاكرتك) الطفولية الغضة ..من ثرثرتهن :أمك ، جدتك ، وزوجات أخوالك عن صويحبات ..تحاول جاهدا الربط بين فكرتين غريبتين عما تربيت عليه ..انقلاب أحوال أخوالك ، السكر ، والعربدة ، والمساء ، والشبق ، وأمك ( ..) تأمرك أن تطرق باب قريبتكم وتبلغها أن : تبعد ابنتها عن أخوالك الثلاثة ..ثلاثتهم كانوا على صلة بها" ص 16
وسيسوق الراوي قصة صمنها ضمن سياق الرواية للإشارة إلى السلوك الخنثوي واللواط من خلال شخص عماد وبداية مساره من خلال توسيع دائرة الحكي أحيانا أو تبئيرها أحيانا أخرى من خلال العودة إلى الطفولة واقتناص لحظات استثار الآخرين به سواء في الحي أو في المدرسة حين كان يعود كما جاء على لسان أحد الشخوص "عبد الرحيم" " تذكر أول مرة أحس بالرعشة الجهنمية تسري في بدنه ، وأمه تنزل سرواله وتتفحصه خشية أن يغتصبه المراهقون " كما أشار إلى صورة قاتمة من خلال تحرش المدرس به وتدخل ضمن استكمال متعته الجنسية يقول " متعته لا تكتمل إلا ...حين يجلسه المدرس فوق حجره بعد أن يأمر التلاميذ بالانصراف " ص 92
فعماد يبرز من خلال الرواية كلقيط لفظه المجتمع وانحرف بسبب معاناته سواء مع الأصدقاء أو مع الجيران أو بسبب تصرفات أمه الباغية ، وإدراكه لحقيقة كونه لقيط مجهول الأب ، ستعمق من جراحه وستدفعه للتمادي وهي إشارات تم التقاطها من خلال ثرثرة الجارات أو في الطريق إلى المدرسة أو الحي
قصة عماد تبرز قضية محورية لسؤال الماهية والانتماء وعنوان للقهر الاجتماعي وتحول اللقطاء إلى ضحايا مجتمع فاسد وهي قضية كانت لها مضاعفاتها الجانبية على سلوكه عند الكبر تجلت في عجزه الجنسي أمر تجسد بوضوح من خلال علاقته بعشيقته وهو في طور المراهقة" حين اختلت به عشيقته وتكرر الأمر صفعته بكلامها : أحتاج إلى رجل حقيقي وليس امرأة مثلي " ص 93
3) الشعوذة والفكر الخرافي
يبرز التعاطي للشعوذة والإيمان بالفكر الخرافي من خلال مشاهد ساقها الراوي عن ضريح للا عيشة البحرية وما يعج به مزارها من خيام لعرافات ودجالين فالمكان بقذارته بقدر ما يعبر عن غياب كل مراقبة صحية بالمكان وغياب كل مسحة جمالية يبقى الأثير لكل الراغبات في الزواج أو الباحثات عن المتع الجنسية أو للتبرك بزيارة الضريح وبقدر ما برز المكان بحركته التجارية غير العادية وتدفق سيل بشري كبير برزت بشاعته يقول الراوي " عبر ممر ضئيل يتفق جدول ماء عكر وقدر كبير مفحم ملئ بالماء تغتسل به زائرات الضريح للتبرك بعضهم يبيع شموعا وبخورا ، يثير انتباهك اللون الأخضر لمناديل وأعلام تبيع الوهم " ص 10
ولعل الصور المثيرة هي تلك التي نقلت واصفة الجدران المليئة بكتابات بالحناء عليها أسماء شابات وشباب يحلمون بالزواج حسب الراوي فالمكان مليء بالكثير من النساء الباحثات عن اللذة الجنسية ، كما تمت الإشارة إلى صورة غريبة تجلت في عج المكان بذلك " الكم الهائل من الثياب الداخلية التي أغلبها أبيض اللون ، وسط الأشواك والنفايات البشرية يتخلص منها بعد الاغتسال كأي شيء منحوس " ص 11 ولعل ترجمة سلوك القسوة من طرف جدة الراوي وتغير أمزجتهم راجع حسب اعتقادها إلى مفعول السحر من طرف النساء يقول عن أحد أخواله " ربما يكون الوحيد الذي تعبت جدتك ( ..) في طرق أبواب العرافات لتعرف من جعلن فلذات كبدها يهجرون البيت والأهل " ص 15 فالخطاب الروائي حسب د محمد برادة " ينحو إلي استيعاب وتمثل الجوانب الملتصقة بما نعيشه عبر تمرير محتوى الحياة في مصفاة الذات ومسالك " الأنا" ومن خلال وعي يجابه العالم وأسئلته ويصارع الآخرين ويستبطن قيما لا تنفك عن التحول والتبدل . من هنا يكون الخطاب الروائي مندسا بين ثنايا وحدود ومناطق لا تخضع بالضرورة للوضوح العلمي والقانوني والإيديولوجي ..إنه خطاب الشوارع الخلفية وردهات النفس المنسية " (6)
فالرواية تسوق أكثر من مثال على الإيمان بالفكر الغيبي كلجوء النساء إلى الفقهاء قصد الإنجاب مما يعرضهن للاغتصاب وهي حالات تمت الإشارة إليها من خلال مناورة السارة وتضمينه لنصوص قصصية قصيرة لها نفس السياق مع اختلاف في شخوصها ونهايتها الدالة على الخيانة والتآمر والشعوذة فالنصوص تسوق عدة حالات اغتصاب لامرأة في حضرة فقيه دجال وهي إشارة إلى التورط المقصود للنساء المتزوجات المحرومات من لذة معاشرة على قدم المساواة أو للراغبات في الإنجاب ..وهذا التوريط بقدر ما يبرز الانحلال الخلقي والعلاقة خارج نطاق الزواج يعلن عن تهافت لا واعي للنساء بإيعاز من أخريات " كجارة الضحية العجوز التي التقت بها في الحمام "
فالدعارة بقدر ما ارتبطت بالفكر الخرافي صارت قرينة له وقد رصدت في أكثر من مكان في الرواية يشير الراوي من خلال تواجده بفندق بائس " شابة تغادر الفندق بثياب تفضح مفاتنها ، وفتاتين تتأهبان لركوب سيارة فخمة شبه عاريتين " ص 13
فالدعارة ستكون لها نتيجة حتمية لانتشار اللقطاء ومجهولي النسب يقول الراوي " عند مدخل أحد الأزقة يلتهمك الفضول ..شيخ يحوقل ...تلطم إحداهن خدها ، تسري في جسدك رعشة حين تعرف أنه عثر على رضيع متخلى عنه ..في سلة ينام قرير العين " ص 14
4) العلاقة بالمكان
لعل العلاقة بالمكان بقدر ما تحدد الانتماء والهوية تعلن عن قيمة الإحساس للارتباط بالأرض ، وبالجذور ، ارتباط تتم ترجمته كلما أحسسنا بالتيه والوحدة والضياع عندها يبرز المكان الأثير لنا ولو من خلال ذكرياتنا ، هذا الارتباط تبدو فداحته أكثر كلما طال أمد العودة إليه ، وأحيانا أخرى يضحى عاملا معيقا في نظرنا نتمنى مغادرته ما دمنا نحمل جراحه بداخلنا فالمكان بقدر ما يحملنا نحمله دوما في أعماقنا ولا شعورنا وتبرز جاذبية الأمكنة أو فظاعتها من خلال درجة تفاعلنا معها إما بالسلب أو بالإيجاب تفاعل يبرز من خلال الرواية ضعيفا إلى حد ما داخل المدينة التي مثلت بالنسبة لبطل الرواية عاملا منفرا حد كرهها علانية ونعتها أقدح النعوت ، فكيف يصل بنا الأمر إلى هذه الحالة ؟
فالمكان بالنسبة للراوي هو مجال يشعره بالضيق والاحتباس يكبل جموحه ولم يترك بذاكرته سوى تجارب حب فاشلة بدء بقصة "هند" التي كان سببا في نسفها ، و مرورا بقصة المرأة الافتراضية (القطة الشامية) التي سنهي علاقته بهذا بعد تلاعبها به وزواجها حسب زعمها بأحد أقاربها ..، والمدينة اقترنت بالجري وراء كسب المال وممارسة الجنس ، والتحرش بالنساء ، سواء في العمل أو في المقهى وهذه التجارب الفاشلة بقدر ما تراكمت خلفت ندوبا غائرة من الصعب التخلص منها دون البحث عن ملجأ أثير سيكون البادية التي سنلاحظ كيف تعيد للبطل بعضا من توازنه وإحساسه بماهيته فالأمكنة .حسب الاستاذة عفاف البطاينة" وحتى "يتمكن الكاتب من تحقيق هدفه بان يجعل العمل أو الرواية تبدو وكأنها حقيقية فإنه يلجأ إلى : الأسماء سواء أسماء الشخصيات أو الشوارع أو المدن ..أو أسماء الحافلات ..هذا الاستخدام يقوم بوظيفة أكثر من مجرد الإخبار عن المسميات إن الكاتب يحاول وباستمرار أن يطمئن القارئ أن كل ما هو مذكور حقيقي " ( 7)
لقد تم رصد العديد من الأمكنة كذلك كأزمور التي نعتها ب " تلك المدينة البغي بشواطئها " ص 11
للا عايشة البحرية " ارتبطت بالشعوذة والقذارة والسحر والدعارة واللواط والفكر الخرافي "
نهر أم الربيع " معانقا المحيط الأطلسي على إيقاع الدفوف والأهازيج الشعبية وعربات "الكارو "..مؤثثة مشهدا سياحيا رخيصا " ص 11
منتج سيدي بوزيد في الجديدة " المدينة البغي بشواطئها " ص 11
المطار المهجور " يذكرك قيظ المطار المهجور... في طريقك إلى العمل غير نفايات المكان وأشواكه وحجارته ، وأكياس بلاستيكية بالية " ص 12
الفندق ارتبط بالدعارة " تلمح شابة تغادر الفندق بثياب تفضح مفاتنها " ص 13
يرصد الراوي في مدخل أحد الأزقة مشهدا دراميا " رضيع متخلى عنه " ص 14
المقهى " الإحساس بالعزلة والكآبة " مساء في المقهى ..بدا مكتئبا غارقا في شروده " ص 31
في الورشة تبرز القسوة وفظاعة ظروف العمل " البرد القارص ..الصباحات الكئيبة ....نفض عنه أسمال العمل اندلعت عاصفة من الغبار ...سأله رفيقه ضاحكا : أكنت تتعارك مع الكلاب ؟" ص 35
الورشة " مكان للعمل يتحول إلى وكر أثير للدعارة وقد تمت الإشارة إلى دلك سابقا ...
في حين يتم الحديث عن البادية بنوع من الحنين والحب والدفء فمن خلال تذكرها تتم العودة إلى الطفولة من خلال لحظات الاسترجاع سواء لحظة إغفاءة أو لحظة سهو ، ما يبرز نوعا من الحنين الكبير، فالرواية المغربية هي خطاب ذات تكتب عبر المتخيل عن مرجع يتسم بغياب تحقق الممكن فيه " ( 8) وهو ما نلمسه حين يتم الجنوح نحو الحديث عن البادية التي تمثل ماضي الراوي بل وحاضره النقي يقول " قبل لحظات بين اليقظة والنوم في فراشه وهو مستسلم لإغفاءة الغسق اللذيذ ، رأى شيئا غير محدد الملامح ، وقف أمام بابه ..لم يكن مهما ( ..) إذا كان بيتا حديث البناء ..أو من البيوت القديمة المبنية بالحجر وتراب بياضة " ..وسط حقول خضراء تلمع تحت شمس ترسل أشعتها الصباحية الذهبية في غنج العرائس " ص 32
وسنلمس هذا الاسترجاع وبنفس الكيفية من خلال الوصف الهادئ و الآسر في لحظة شرود يقول الراوي " شرد ذهنه للحظات ، رأى نفسه صغيرا تائها في قيظ القيلولات بين أشجار الأوكاليبتوس الفارعة وهديل اليمام يبث في النفس أسى غامضا كأنه نواح أسطوري تحت أشعة شمس لا هبة يطاردون أعشاش العصافير واليمام والحجارة الصغيرة والتراب تحرق إقدامهم الحافية " ص 54
5) الواقع العمالي
أ ـ رصد للجماعة
لماذا اعتبر الرصد من داخل الورشة زمنا آخر داخل الرواية ؟ وهل هو بالفعل زمن آخر أم الزمن الفعلي والدافع نحو الكتابة . ألا يمكن اعتباره زمنا واقعيا سيطر بكل تفاصيله على مجريات الحدث الروائي ؟
فالزمن الآخر هو الزمن النفسي المترجم للواقع والعاكس له بوضوح وجلاء ومن داخله تمت الكتابة وتم الرصد أمر سنعلن عنه من خلال التطرق لمحور الكتابة نفسه .
فالمشاهد المنقولة من داخل ورشة البناء حافلة بالعديد من التفاصيل الدقيقة الخاصة بظروف وملابسات العمل ومن قسوة الظروف الطبيعية ومعاناة العمال البسطاء وصراعاتهم الجانبية وحروبهم الصغيرة ضمن حلبة تنافس من أجل الاستمرار وهي تعرض بشكل جلي أمزجتهم المتقلبة وسلوكهم المثير حد الغرابة والشذوذ أحيانا في النظرة إلى الجسد الأنثوي من خلال تمثل مترسب في لا وعيهم أمر يبرز من خلال عمليات تلصص مستنفرة للمشاعر ومستفزة للرغبة الجنسية . وتبرز فصول الرواية خصوصا الفصل الثالث تحت عنوان فرعي " زمن آخر " حياة التقشف والبؤس وغياب النظافة سواء على مستوى الهندام " ارتداء "أسمال" العمل اندلعت عاصفة غبار أبيض " ص 35 والكلمات البذيئة من قبيل " القحبة " ص 35 " تسيح من تحت مثل قربة مثقوبة " ص 36 كما يبرز كراهية لأرباب العمل من خلال لجوء البطل إلى مقارنته ابن الباطرون بأحد العمال " يحس ببعض الغبن حين يقارنون صاحب الثياب الممزقة بابن الباطرون " عبيقة " المتعجرف الذي يقود سيارة أبيه بهندام أنيق ونظارات سوداء لكنه لا يفقه شيئا في الصنعة " ص 37 كما تبرز تردي آليات العمل وعطبها مما يتسبب في قلق العمال وتأخر رب العمل أو تأخره عن موعد مهم داخل الورشة يوم " الضالة واستعمال " الرافع الآلي الهرم " ص 39
فحالة البؤس بقدر ما تبرز تردي ظروف العمل تعري عن تقشف رهيب فقبل انجاز العمل يجلس العمال لاحتساء كأس شاي تكون تكاليفه عل حسابهم يقول الراوي " أشار أحدهم إلى أن يشرعوا في جمع "العشرات" لإعداد الفطور ..بحث عن قطع نقدية صفراء عدها أكثر من مرة ، تلكأ متسائلا عن ما بقي من طويبات سكر أمس " ص 40 وتبرز حالة اليقظة داخل الورشة من خلال محاولة تجنب الشرب في كأس عامل مريض بمرض معدي دون التصريح بذاك علانية أو التسبب في الحرج لصاحبه من خلال اللجوء إلى التآمر والانتباه بوضع علامة أسفله .
في حين يتم رصد لحظات استراحة المحاربين بعد الانتهاء من العمل يقول الراوي " تمدد العمال تحت ظلال الجدران وصفائح قصديرية أو ألواح أو ورق مقوى نصب على شكل واقيات شمسية مفترشين الأسمال وأكياس الاسمنت الفارغة " ص 43 إنها "الأهمية التي يكتسيها الروائي العربي كمؤلف في تعميق سؤال النقد والمساءلة التاريخية في صيرورة المتغير العربي فهو كذات يتحول إلى متلق لرسائل واقع يدخل معه في جدل ثقافي وتاريخي ..فالمؤلفون..لا يتحددون بصورة آلية بالعقائدية ( الايدولوجيا) أو الطبيعة أو التاريخ الاقتصادي بل هم ..كائنون إلى حد بعيد في تاريخ مجتمعاتهم ويتشكلون بذاك التاريخ وبتجربتهم الاجتماعية بدرجات متفاوتة " (9)
ب ـ رصد للفرد : شخص " كبالا " تحت المجهر
يبرز شحص "كبالا " كابن عم للسارد ( وابن أخ للتباري) وسنلمس حضوره اللافت ابتداء من منتصف الفصل الثالث للرواية الذي اتخذ عنوانا فرعيا " زمن آخر " حين كان يتحدث عمه وأحد شخوص "الرواية عبد الرحيم "في انتظار أن ينتهي " كبالا " وابن عمه " بعية " من عجن الملاط " ص 31 ، وسيبرز من خلال تعليقاته الساخرة مدى طابع المرح الذي تتميز به روحه ، جاء في إحدى تعليقاته على " بعية " حسب الراوي " تأمل الرفاق خبزة في حجم عجلة علق " كبالا" متهكما : مضيغ خوتك في الزرع أمسخوط الوالدين " ص 40 وهذا ما يجعل الخطاب في الرواية بقدر ما يقدم لنا شخوصا يضحى نفسه مؤثرا ومساعدا على بروز الشخصية نفسها "وإذا كان الخطاب في رأي رولان بارث ينتج الشخصيات فيتخذ منها له ظهيرا ، فليس ذلك من أجل أن يجعلها تلعب فيما بينها أمامنا ولكن من أجل أن تلعب معنا ..فكأن الشخصيات هي عينات من الخطاب نفسه يغتدي عبر هذه العلاقة مجرد شخصية من الشخصيات الأخرى" (10)
ف "كبالا " سيضحى موجها للكثير من الأحداث بل ومؤثرا فيها فهو الشخص الذي يصل به الأمر إلى تعنيف الجميع بجرأته ومواجهتهم حتى عمه التباري لا يفلت من ذلك يقول " حط لي كاسي ألتباري واش أنت بارك تشري في البلاد ، وما قادش تشري كاس بجوج دراهم " ص 41
وتبرز سخرية "كبالا" من خلال تبريراته الغريبة وإيماءاته المضحكة ومواقفه الساخرة يقول الراوي " استوى "كبالا" واقفا ، ربت على بطنه المتكور أمامه : كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون " تمرغوا ضحكا وهو يستشهد بآية كريمة تلائم شراهته " ص 42
كما أن علاقة " كبالا " بالسارد بقدر ما برزت من خلال مواقف " كالحكي عن جده / والفكاهة / والتحرش / أو النزاعات التي تحدث أثناء العمل سواء داخل الورشة أو خارجها وتدخله، حيث يشير الراوي إلى نزاع بين امرأة وأحد العمال (عبد الرحيم) " تندروا بحركات "كبالا" وهو يحاول فك الأذرع المتشابكة ويداه تلامسان صدرها " ص 47
وتبرز علاقة "كبالا" الجنسية أشد غرابة سواء مع الأتان أو مع زوجة عمه داخل الاصطبل أو داخل الورشة لتتطور فيما بعد الى علاقة حب لأحدى الخادمات " نادية " ويرسم الراوي ملامح "كبالا" المحب لنكتشف عمق الانهزام الإنساني وصدق الإحساس الذي ينتاب المرء في لحظة الصدق وقد تغيرت ملامح مارد لطفل صغير وبريء يقول السارد " تأمل صمت "كبالا" كان يعرف ما يجيش في دواخله من مشاعر مضطربة لعله نوع من الحب الذي لا يمكن ل"كبالا" أن يعبر عنه إلا بطريقته الخاصة يصمت غير قادر على الكلام يعبدها في صمت " ص 83
ويبرز سلوك " كبالا" وطرافته درجة من التذبذب والاستلاب والتحول بمجرد أن يرى نادية بحيث يسوق الراوي مشهدا طريفا يقول " يشيعها بنظراته ..فاصطدم بالعمود الكهربائي " ص 83 و" مر كبالا" بالناقلة حاملا كيسي اسمنت من أمام الورش وتجاوزه هائما على وجهه فبذل أن يدخل عبر المرآب سرح بعيدا عند رؤية نادية " ص 84
فعشق "كبالا "للنساء ينعكس على كل مظاهر حياته وسلوكه حتى فيما يدخل في باب الإحسان للفقراء يقول الراوي وهو يسوق مشهدا فريدا " راقباه في صمت وهو يرمي بالدرهم أمام متسولة ترضع صغيرتها رغم قذارة ملابسها ، كان ثديها يطفح أنوثة وحلمته الرمادية المتصلبة تلمع "ص 87
فالكاتب بتركيزه على شخص "كبالا" ربما أراد أن يقدم لنا صورة للإنسان المغربي البسيط في مختلف مظاهر حياته الشخصية والعامة وهو يعرض أمامنا نوذجا قابلا للتشريح النفسي بما تكتسيه شخصيته وما تحمله من قيم ومن تناقضات نابعة من قسوة ظروف الحياة التي يعيشها ونابعة من عمق ما تعيشه الشخصية من مشاكل هي في الواقع اختزال لمشاكل شرائح عديدة من الناس البسطاء ، ''كبالا" نموذج شخصية فريدة من نوعها في الرواية المغربية الجديدة .
6) الكتابة
تميزت لغة الرواية بالتنوع مع تضمينها للغة عامية إلى جانب اللغة العربية بكل إحالاتهما ومراميهما داخل أنساق مختلفة للدلالة على أشياء ومسميات بعينها فبين التوسل بالمثل الشعبي أو الدراجة الموغلة في الخصوصية من خلال إحالتها على فرنسة لكلمات هي من ضمن سياق اللغة التداولية بالمغرب لاقتران استعمالها بظروف الاستعمار ومن طرف الطبقة المفرنسة التي دأبت على نطقها بتعريب خاص كما هو الشأن بالنسبة لقدماء المحاربين من الجنود أو بعض موظفي الإدارة العمومية في علاقاتهم اليومية مع المواطنين لغة ستبرز بقوة من خلال حوارات العمال فيما بينهم داخل ورشة البناء من قبيل "الضالة / الباطرون / الكوفراج / بليزة / "ومصطلحات أخرى اقترنت بألقاب شخوص " بعية /كبالا / عبيقة /قبقب / العطاش / الكارو ، وألفاظ فجة ومحتشمة سواء مباشرة من قبيل " القحبة / أو ضمني من قبيل : تسيح من تحت مثل قربة مثقوبة / وباغي لحاااايمة رطيبة ..."فالرواية العربية ،خلال ما ينيف عن مئة سنة قد اضطلعت بدور كبير في تهجين اللغة تهجينا محضا وطد علائقها بالنثرية الطامحة إلى ملاحقة التحولات المتسارعة على إيقاع التحديث وتحولات المشهد العمراني ، والتصنيفات الطبيعية والإصطفافات الإيديولوجية " (11)
في حين سنلاحظ أن الرواية تضمنتها تناصات متعددة سواء مع جنس القصة القصيرة من خلال تضمين نص سيكتب بنهايات متعددة دلالة على مقدرة الكاتب وحنكته في تطعيم جسد الراوية وخلق تطريز دال عليها كما سنلاحظ تدخل الراوي ومناورته وهو يتوجه للقارئ المفترض مباشرة يقول " سيستغربون كيف عرف بتلك التفاصيل لا سيما وأن "مراد " لا يعرف أي شيء عن ماضيه" ص96 وهنا سنلمس تناقضا بين ما جاء في سياق الحديث عن شخصية "عماد" ص (87)التي ربما يعني بها الكاتب "'مراد " تحمل كل شيء في صمت مرير ، كان يعرف أن الرجل الذي كفله لم يكن والده ، حمل اسم رجل كانت تردد أنه مات وهو ما زال جنينا . لم يكن يعنيه في كل شيء كل ما حدث ويحدث .أدرك ـ منذ نعومة فخذيه ـ أن الدنيا تعانده ، تسلبه كل بهجة " ص 93
كما لمسنا تقريرية مقصودة هدفت إلى كسر السرد الخطي للرواية لتوريط القارئ أكثر " سيصير من الصعب التمييز بين الواقعي والخيالي في النص لمعت في ذهنه حكاية "المعاشي" عن أحداث مشابهة لامرأة شبقية في الدوار مع احد الفقهاء " ص 96 وهذا التناص بقدر ما يبرز رغبة في تطويق سيل المحكيات والحدث الرئيسي سيجعل من سرد التفاصيل تتداخل مع قصة أم " مراد / عماد (أنظر الصفحات 87/ 96 / 82 ( عماد مثل أخي ) لندرك أن مراد شخص من شخوص الرواية لم يشارك في أطوارها ولكن يتم الحديث عنه عرضا وقد برز كمؤثث لواجهة داخل الورشة أو عبر الهاتف .
"لأن الرواية كما يقول خوان غويتوصولو هي مملكة الشك بامتياز بحكم أنها وبصيغة نتشوية تضع موضع الشك كل القيم التي تقف عائقا أمام تحقق الوجود الذي هو حقل الممكنات الإنسانية : أي كل ما يستطيع الإنسان أن يصيره ويفعله " (12)
فالكاتب ناور قارئه المفترض وهو داخل محراب الكتابة كما ناور نفسه حين عبر من خلال انفلاتا ته عن مشاعره الخاصة وهو يفتعل كل السيناريوهات الممكنة على الورق دون أن يكون طرفا في تنفيذها رغم كونه يتحكم في كل خيوطها من خلال تغيير الأدوار والشخوص لكنها تعري عن الوجه الآخر لممكن الكتابة ،" وتشكل هذه الظاهرة إطارا مناسبا لدخول تعدد الأصوات خاصة وأنها مندغمة بشكل (ما مع) الحوار الداخلي الذي تنقسم فيه الذات إلى ذاتين متجادلتين : إما تقوم إحداهما بتقمص أقوال وسلوكات وأعمال الذات الأخرى ، أو أن إحداهما تمثل أقوال وأفكار الغير المعارضة لأفكار الأولى ..وتشكل هذه الظاهرة حسب باخثين الحوار المجهري "(13) الشكل المهيمن في كلام الراوي حين يتحدث عن عمه أو عن شخص "كبالا " أو حتى عن نادية الخادمة .
فهاجس الكتابة الروائية سيبرز من خلال إعجاب الكاتب بنفسه بعد إحساسه بالرضا والامتلاء الداخلي يقول عن عمله "إنه يختلف عن كتاباتي السابقة ، وحتما سيغير الكثير من المفاهيم " ص 102 وكذلك حين سأل نفسه " هل بدأت أقترب من نبض المجتمع ؟ هل بدأت أقترب من الناس ؟" ص 102 .
إن هذه الأسئلة تدفعنا إلى إستكناه جمالية التوظيف عند الروائي هشام بن الشاوي من خلال توظيف الضمائر الثلاثة المتكلم ، والمخاطب والغائب وهذا المزج له أكثر من دلالة فاصطناع " ضمير المتكلم ابتغاء التحرك بين وجهة نظره وغيره المدققة بما هو سارد وبين العالم الذي يحكيه أو يحكي عنه (..) باستخدام ما يمكن أن يطلق عليه " الحاضر الحكائي " أي أنه يتموقع في حاضر الحدث فيتحكم في مجرياته تحكما شديدا" ( 14)
في حين أن ضمير الغائب الذي هو السائد في الكتابة الروائية ربما كان الهدف من توظيفه أن " يجعل من السرد حكاية منسوجة من خيوط لغوية محبوكة طورا ومهلهلة طورا آخر هي التي تصور عالما موازيا للعالم الواقعي " (15)
إنها أسئلة الكتابة والذات الكاتبة في نفس الوقت .وقد برزت أكثر من مرة داخل الرواية في الفصل السابع مثلا حين سيناور قراءه كذلك وهي محاولات بقدر ما تكررت أبرزت ذاتية ونية صريحة يقول " في رحم خياله تشكلت فكرة كتابة قصة قصيرة عن هذه الأم تلح الأفكار أن يحررها من ظلمات سجنها " لا بأس إن خدعت قراءك المفترضين ، وبدوت أمامهم فارسا نبيلا في زمن بائس ، ولن تكون النذل الوحيد ، وليست نهاية العالم" ص 80/81 وكذلك من خلال الإشارة إلى عزمه الصريح " سأحاول الليلة أن أرتب أرتب أفكاري ، وأختار لها كعنوان ، حتى ولو بدا مستهلكا لكنه قريب من أجواء هذا النص الوليد " عفوا أيتها الأم " ص81 ويرى الناقد حميد لحميداني أن استعمال الضمائر في الكتابة "كان دائما يريد الحفاظ على صلابة الضمائر كما هي في الواقع الموضوعي فالأنا هو " الأنا " و" الأنت" هو " الأنت" ولا يمكن أن يتداخلا في الوجود الذي يمكن فقط هو أن يشتركا في التجربة الواحدة , إن الرواية مع ذلك قد توهم بأنها تتحدث عن الآخرين والحقيقة أنها تعتصم بذاتيته ( الشبه مطلقة ) "(16)
فهاجس الكتابة ظل حاضرا طوال فصول الرواية من خلال إبراز كتابة الرواية لنفسها بنفسها وتشكل فصولها ومحاورها وأفكارها التي جمعت بين الافتراضي والخيالي والواقعي والسيرـ ذاتي ليتم دمج كل المعطيات في بؤرة واحدة وهذا ما يبرز ممكنات الكتابة الرواية المغربية الجديدة سواء في مواضيعها أو زوايا التقاطها أو رسائلها للقراء بعيدا عن كل إيديولوجية أو سياسية ،و"لم يمنع التماهي بين الكاتب والراوي والشخصية " ضمير المتكلم المفرد " الأنا " من أن ينصهر هذا الضمير مع ضمائر أخرى غائبة ..وهذا الانفتاح على الضمائر الأخرى يؤسس لسيرة جماعية سمتها الحرمان والفقر والعنف المضاد .. في بيئة (الراوي) " ( 17)
فالكتابة لدى ابن الشاوي تمتح من صلب المجتمع المغربي ومن صميم قضاياه ومشاكله الحقيقية وتبرز بؤس نفس الواقع وفئة عريضة من الشعب .
إنها الرواية الجديدة التي تراود الواقع كما تراود القارئ لتقدم له واقعه العفن منشورا على حبل الكتابة واقع التخلف والتردي والبؤس والخيانة والإحباط ، في نهاية ألفية تعلن ولادة أخرى تحمل العديد من رواسب ماض مثقل بالندوب وبالإحباط فهل سيتغير شيء ما في المستقبل ؟
ربما الإجابة عن هذا السؤال قد نلمسها في إحدى مقالات الأستاذ أحمد المديني الذي قال ذات مرة " إننا في حاجة إلى النص الروائي الجديد الذي يرشق بسهام النقد الأخلاقي أو الأيديولوجي ..حين يأخذ البحث عن المرتكزات ومناط اهتمامات جديدة في الشكل ورؤية العالم . هذا النص النافر عن الرؤى والقوالب الظاهرة المصنعة مطلوب لأنه يفلت من رقابة النزعة التبخيسية للواقع ، ولكونه يشتغل بالكتابة وأدواتها المتجددة " (18)